مقتطفات من تاريخ المال
في بلاد وادي الرافدين Mesopotamia ظهرت اولى العملات النقدية الفضية والنحاسية وكانت قيمتها تستند الى كمية مخزون القمح، أما في اليونان القديمة فكانت الدراخمة Drachma والتي تعادل قيمتها وزن كمية محددة من الحبوب، وفي اليابان القديمة كانت الكوكو KoKu هي المحرك الاساس للاقتصاد الياباني القديم وكانت قيمتها تستند الى مخزون الرز في السنة الواحدة.
الكوكو Koku
مرت العصور والازمان وظهرت اولى الاوراق النقدية في الصين القديمة في حدود سنة 600 ميلادية ، وكانت تدعى جايأوزي Jiaozi. أما في أوربا فظهرت أولى العملات النقدية الورقية في مدينة Leiden الهولندية خلال الاحتلال الاسباني في عام 1574 وكانت هذه العملات تصنع من الجلد في بادئ الامر، ثم ساءت ظروف المعيشة وأصابت المجاعة سكان مدينة Leiden فأصبحوا يضعون العمل النقدية المصنوعة من الجلد في قدور الطبخ ويغلونها حتى تطرى ثم يأكلوها، وقاموا بنهب الكتب الدينية الموجودة في الكنائس وصنعوا من ورقها عملاً نقدية ورقية لتكون بديلاً عن العمل الجلدية القديمة.
جايأوزي Jiaozi
أصبحت قيمة العملات النقدية تستند الى قيمة المعادن النفيسة من ذهب وفضة وغيرها. و صدرت أولى العملات النقدية الورقية الاوربية المطبوعة في السويد وكان ذلك في عام 1660 في الفترة التي كان فيها الجزء الفرنسي من كندا يستعمل ورق اللعب كعملة ورقية للتبادل التجاري. وبحلول القرن الثامن عشر أصبحت العملات النقدية تصنع من ورق ثقيل يمزج معه أحياناً القطن ومواد اخرى لزيادة ديمومته.
في عام 1785 بدأ العمل بإستعمال الدولار الأمريكي ليكون العملة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية. خلال تلك الفترة ظهرت بعض العملات الورقية للتداول ولكن بقيم صغيرة.
حتى عام 1914 وكانت أعلى عملة معدنية هي 20 دولاراً وكانت من الذهب. بعد ذلك بدأت العملات الورقية بالظهور والانتشار، ولكنها كانت كبيرة الحجم مقارنة بالعملة الأمريكية المتداولة في أيامنا هذه والتي ظهرت إلى التداول في عام 1928 .
عملة ذهبية من فئة 20 دولاراً
ولدت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، لم أكن أعلم أي شيء عن العالم من حولي، إلا كوني ورقة نقدية جديدة أمامها مستقبل واعد من التداول....
بدأت رحلتي من مخازن شركة البنك الامريكي للعملة في عربة مصفحة مع أخواتي العملات النقدية الاخرى ، تم نقلنا في موكب عظيم من سيارات الشرطة والدراجات النارية كما لو كنا أحد الحكام الديكتاتورين الذين يخافون محاولات الاغتيال التي تترصدهم في كل زاوية ومنعطف.
وصلت إلى وجهتي وتم تخزيني في إحدى الخزنات النظيفة الواسعة في أحد البنوك الشهيرة، ومرت الايام والسنين وأنا وأخواتي نسلي أنفسنا بعد ومقارنة أرقامنا التسلسلية... حتى جاء اليوم الذي أخرجنا فيه من خزنتنا المريحة وتم وضعنا في الموكب المهيب الذي جئنا به وتم نقلنا الى أحد المطارات ونحن في صناديق فضية براقة. ثم وضعنا في داخل إحدى الطائرات العملاقة والخاصة بنقل المال لغرض شحننا إلى مكان أخر.
وفيما كنت في داخل الصندوق الفضي البراق، سمعت الحراس الذين يرافقونني على متن الطائرة يتحدثون عن صفقة نفطية عملاقة، وأنني إستعملت وأخواتي كجزء من هذه الصفقة. وكانت تلك بداية مغامراتي في العالم الكبير، نزلت طائرتنا في أحد المطارات العربية، وتكرر مشهد الموكب المهيب ومررنا في شوارع كثيرة حتى وصلنا الى أحد القصور الفارهة والتي يملكها أحد شيوخ العرب والذي هو مالكنا الجديد. كان هذا الشيخ يسمى "فرهاد".
مرت الأيام والشهور ونحن في ذلك القصر العجيب، حتى جاء ذلك اليوم الذي أخرج فيه الشيخ "فرهاد" بعض الرزم وكنت أنا ضمن احداها. لم أكن أعلم ما الذي كنت سأستعمل لآجله هذه المرة. كان هناك ضيف غريب في انتظار الشيخ "فرهاد" في إحدى غرف الاستقبال في القصر الواسع الكبير، استنتجت أن هذا الضيف سيكون مالكنا الجديد...
دخل الشيخ "فرهاد" إلى غرفة الاستقبال التي ينتظره ضيفه فيها وألقى عليه التحية ثم قال: "كيف الحال يا شيخنا "فشلوق" وكيف هي أحوال الجامع والمجاهدين؟؟؟"
شيخ الجامع "فشلوق": "الكل يسلمون عليك ويدعون لك بطول العمر وزيادة الخير.."
الشيخ "فرهاد": "ما أخبار الجهاد يا شيخ؟"
الشيخ "فشلوق": "على خير حال، والفضل لك وللأموال التي تشتري فيها مكانك في الجنة بين إخوانك المجاهدين في سبيل الله"....
الشيخ "فرهاد": "إني أبتغي مرضاة الله، ولهذا أحضرت لك هذه المليون دولار كي تصرف على المجاهدين والجهاد".
الشيخ "فشلوق" وهو يستعد للمغادرة: " الله يطول عمرك، الله يجازيك خيراً، الله يسكنك الجنة، الله يغنيك من نعيمه، الله يحفظك ، الله ....................... الل............ ه"....
أخذني الشيخ الملتحي الغريب مع أخواتي المرزومات ووضعنا تحت مقعد سيارته، ثم انطلق بالسيارة مبتعداً عن المدينة ومتجهاً إلى الصحراء، وبقي يقود السيارة لساعات وساعات حتى وصلنا إلى خرابة على الحدود مع العراق، أخرجنا "فشلوق" من تحت المقعد ونزل من السيارة. لمحت في ظل الخرابة شخصٌ ملثمٌ يختبئ وهو يحمل سلاحاً يوجهه نحو الشيخ "فشلوق"، فكرت للحظة أن هذا قاطع طريق أو لص سيارات ولكنه صرخ بالشيخ "فشلوق" سائلاً إياه عن كلمة السر...
أجابه الشيخ "فشلوق" : " و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل........"
فأنزل الملثم سلاحه وأقترب من الشيخ "فشلوق" وصافحه، وسأله: " كيف هي الغلة هذا اليوم؟"
قال "فشلوق": "خمسمائة ألف دولار، ستأخذها وتعبر الحدود إلى أرض الجهاد".
لم أعلم كيف قل عددنا إلى النصف فحين وضعنا الشيخ "فشلوق" تحت مقعد السيارة، كنا مليون دولار جديدة متسلسلة، أرعبتني هذه الفكرة، فأهم شيء بالنسبة لورقة المال أن يبقى التسلسل موجوداً بينها وبين أخواتها أوراق المال الأخرى. لم يقطع سلسلة أفكاري هذه إلا أيدي الشخص الملثم القذرة وهي تمسك برزم المال وتضعنا في حقيبة جلدية بنية اللون كريهة الرائحة.
كان الظلام دامساً في داخل الحقيبة البنية والتي بقيت في داخلها مع أخواتي ليومين أو ثلاثة أيام، وعندما فتحت الحقيبة ثانية، رأيت يداً جديدة تمتد إلى داخل الحقيبة وتأخذ عدة رزم إلى خارج الحقيبة، لم أكن أعلم ما هو شكل المكان خارج الحقيبة، ولكن بعد بضعة أشهر التقيت بورقة مالية ثانية كانت ضمن إحدى الرزم التي خرجت في ذلك اليوم، وقد كانت فرحتي برؤية واحدة من أخواتي والتي استطعت تمييزها من رقمها التسلسلي. فأخبرتني بأن المكان في الخارج كان باحة خلفية لأحد كراجات تصليح السيارات في أطراف بغداد، وكانت الرزم التي خرجت في ذلك اليوم هي ثمن تفخيخ إحدى السيارات.
كنت ما أزال في الحقيبة البنية حتى جاء اليوم الذي أخرجنا فيه، وبدأت بعض الأيادي تقسمنا إلى مجموعات صغيرة، ثم بدأ بعض الأشخاص يتوافدون منفردين أو مجموعات ويدخلون الغرفة، وكان الشخص المسئول عن توزيع الأموال يسألهم في كل مرة: "كم رأساً هذا اليوم؟؟"، فيجيبوه بالأرقام، وبالاستناد إلى إجابتهم يعطيهم بعضاً منا. وكنت أنا من حصة شخص يدعى "طبار"، وكان قد قتل خمسة أشخاص في ذلك اليوم.
في اليوم التالي أخذني "طبار" في جيبه كي يشتري جهاز تلفزيون مستعمل من أحد الأشخاص، وكان هذا الشخص مدرساً متقاعداً يعيش في نفس المنطقة التي يعيش فيها "طبار"، وقد ضاقت به الدنيا فقرر بيع أغراض منزله كي يحصل على قوت يومه ويرسل بعض المال إلى ابنه الذي لجأ إلى إحدى الدول العربية المحيطة بالعراق هرباً من الجحيم الذي يزداد سعيره في كل يوم يمضي.
كان المدرس المتقاعد يريد 120 دولاراً ثمناً للتلفزيون، ولكن "طبار" رفض إعطائه أكثر من 100 دولار مقابل التلفزيون. وكنت أنا من نصيب المدرس المتقاعد، والذي قام بوضعي في مظروف ورقي ووضعني تحت مخدته، في تلك اللحظة انتابني شعور غريب، فقد كانت هذه هي المرة الأولى التي لا أكون فيها مع أخواتي الأوراق المالية الأخرى، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يعاملني بها أحدهم بهذه الخصوصية، أحسست بقيمتي الحقيقية في ذلك اليوم وعرفت أهميتي في عين هذا المدرس المتقاعد البسيط.
لم يطل بي المقام كثيراً مع المدرس المتقاعد، فبعد يومين فقط، كنت في طريقي إلى أبن المدرس المتقاعد والذي يعيش في إحدى الدول العربية. كانت فرحة الابن كبيرة حين استلمني، وقام باستعمالي لشراء بعض المواد الغذائية من أحد المتاجر الكبيرة في ذلك البلد العربي. انتهى العمل في ذلك المتجر الكبير لذلك اليوم، وبدأ المسئول يجمع الأموال من صناديق البيع ويعدها ويضعها في حقيبته السوداء الكبيرة.
خرج المسئول عن جمع المال، وركب سيارته وسار متجهاً إلى مالك المتجر الكبير، وحين فتحت الحقيبة السوداء، كنا في منزل مالك المتجر، ولدهشتي فقد كنت أعرف ذلك المكان، لقد كان قصر الشيخ "فرهاد"....
وضعني "فرهاد" في خزنته المخفية في الجدار، وبقيت لشهر أو أكثر، وفي أحد الأيام وجدت نفسي في حقيبة سفر الشيخ "فرهاد"، وبجانبي بطاقة سفر لأمستردام. طارت بنا الطائرة أنا و "فرهاد" حتى وصلنا إلى ذلك البلد.
وصلنا الى الفندق الذي ينزل فيه الشيخ "فرهاد"، وبدأ "فرهاد" بتغيير ملابسه على عجل ووضع الكثير من العطر، ثم وضعني في جيبه وخرج.
كانت وجهتنا هذه المرة أحد المواخير التي تشتهر بها منطقة الضوء الأحمر Red light district في أمستردام التي توفر خدماتها طوال اليوم، فاختار "فرهاد" إحدى بائعات الهوى الشقراوات، واستمتع أيما استمتاع بمضاجعتها، رغم معرفته أنها تضايقت من وزنه الثقيل وكرشه الكبير. وهكذا وجدت نفسي في أخر اليوم في حقيبة بائعة الهوى، والتي وضعتني مع أوراق مالية أخرى داخل صندوق مستحضرات التجميل الخاص بها.
بعد بضعة أسابيع، كانت بائعة الهوى تستعد لدفع ضرائبها المستحقة لذلك العام، فتم إيداعي في أحد المصارف. حتى جاء اليوم الذي تم شحني فيه مرة أخرى في مقابل صفقة أجهزة مختبرية عالية التقنية اشترتها إحدى الشركات الهولندية من الولايات المتحدة. وهكذا وجدت نفسي أعود لمسقط رأسي وأنا أكثر قذارة مقارنة باليوم الذي غادرت فيه المطبعة التي صنعتني، ولكنني أكثر خبرة وما زلت أحتفظ بقيمتي المادية.
مع تحياتي
MHJ