ث و م
-1-
في البدء كان الفراغ، فراغ ولا شيء إلا الفراغ... لكنهم لم ينظروا جيداً، لو كانوا قد نظروا بتمعن لكانوا قد وجدوا شيئاً أخر غير الفراغ، شيئاً وحيداً يسبح في الفراغ.
ولآن الفراغ لم يكن يحوي إلا هذا الشيء، فلا أحد يستطيع معرفة حجمه الحقيقي، حيث لم يكن هناك من شيء أخر لمقارنته به. لا أحد يعلم إن كان هذا الشيء بحجم كرة القدم أم بحجم القمر رغم أنني أعتقد أنه بحجم البرتقالة....أو ربما لا.
فوق هذا الشيء كان يعيش كائنان مختلفان، أحدهما يعيش فوق الشيء وإسمه "ثومي"، والأخر يعيش أسفل الشيء ويدعى "موني"، أو قد يكون العكس صحيحاً أيضاً، فمن الصعب التمييز بين أعلى الشيء أو أسفله في الفراغ. كان "ثومي" يزرع الثوم في الجانب الخاص به من الشيء، وكان الثوم هو الغذاء الذي يعيش عليه. بينما كان "موني" يربي المن الأخضر ليقتات عليه.
-2-
كانت الحياة على سطح الشيء مملة و روتينية مليئة بالرتابة، لم يكن هناك من صبح أو ليل أو أيام وسنين، لم يكن هناك من شيء إلا الشيء الذي يسبح في الفراغ.
كان "ثومي" و "موني" نادراً ما يلتقيان، وعندما يلتقيان فهما لا يتحدثان، وإن تحدثا فهما لا يتفقان، وينتهي الأمر بأن يتعاركان و يتقاتلان.
كان كل من هذين الاثنين منشغلاً بما يهمه، "ثومي" يرعى نباتات الثوم و "موني" يرعى حشراته اللطيفة والمليئة بالعصارة.
كانت المشكلة الأساسية على سطح الشيء وموضوع الخلاف الأزلي بين الاثنين، هي الثوم والمن، فقد كانت حشرات المن العائدة لـ"موني" تغزو نباتات "ثومي" في كل يوم لتتغذى على عصارتها. وكان "ثومي" أحياناً ينتقم من "موني" بأن يمسك هذه الحشرات ويعصرها فوق نباتات الثوم ليسقيها ويعيد العصارة التي سرقتها منها.
-3-
في يوم من الأيام ......هممم..... أن صح التعبير، فلم يكن عامل الزمن مهماً في تلك الأيام... على العموم.... في زمن من الأزمان، كان "ثومي" يتسلل إلى مكان مختبره السري والذي يقع داخل إحدى الحفر في سطح الشيء، التقى في طريقه بـ"موني" وهو ينزه حشراته قرب مختبر "ثومي" السري، فغضب كثيراً وخصوصاً عندما رأى أن بعض الحشرات قد بدأت بشرب عصارة إحدى نباتات الثوم التي يجري عليها تجاربه الغريبة، فقال "ثومي" وهو ينهر "موني": " والثوم . كالدر المكنون . لأن رأيتك قرب هذه الحفر و الخروم . لأعصرنك عصراً يا أيها المجنون . كما أعصر حشراتك وأجعلها كالمن المفروم . فعد من حيث أتيت يا موني الملعون . أسفل الشيء فذاك مكانك الذي فيه تكون"...
كان "موني" قد قرر بأن يلتزم الصمت ولا يحدث "ثومي" أو يجيبه أبداً ويركز اهتمامه على جعل حشراته أسمن وأغزر عصارة. فلملم حشراته الصغيرة ومضى يمشي الهوينى متجهاً إلى أسفل الشيء.
-4-
بعد أن غادر "موني" مبتعداً، جلس "ثومي" قرب الخرم الذي يحوي مختبره السري محاولاً إيجاد حلٍ لمشكلة ضمور و نشفان نباتات الثوم التي يزرعها. كان "ثومي" في كل مرة يمزج بعضاً من المركبات ويصنع منها مواداً متنوعة يسقي بها نباتاته وينتظر النتيجة.
كان "ثومي" يفكر مع نفسه وهو يمزج المواد المختلفة: " ث و م . سماداً متين . أصنعه من حجر و طين . وأخلطه مع بضعة مقننة من العجين . حتى ينمو الزرع نشيطاً سمين . وأكون أنا من المسعدين".
كان "ثومي" مندمجاً بأفكاره السعيدة هذه حتى تذكر عدوه "موني" وبدأ يفكر بطريقة يتخلص بها منه ومن حشراته التي تدمر محصول ثومه، فكان يخاطب نفسه قائلاً : " أيا موني يا لئيم . سترى ما أفعله بك بعد حين . أمر جلل و بأس عظيم . سأصنع من جذور الثوم حبلاً متين . وأعلقك به و أشنقك فتصبح من البائسين . أما حشراتك يا لعين . موت زؤام ينتظرها و تسميم . بسُمٍ أصنعه أنا ويا لي من عظيم . مهيمن جبار وما لي من قرين"، ثم أرتفع صوت ضحكات "ثومي" المرعبة لتصل كل أرجاء الشيء.
-5-
كان "موني" نائماً وهو يحتضن بعضاً من حشراته الصغيرة، فلم يحس بالحفيف الخفيف الذي يسببه سير "ثومي" وهو يقترب منه وهو يحمل معه حبلاً صنعه من جذور نبات الثوم.
قام ثومي بتمرير الحبل من تحت رقبة "موني"، ومن ثم ربطه بإحدى صخور أسفل الشيء، وبعدها قام "ثومي" بدفع "موني" دفعة قوية جداً جعلته يتدلى من سطح الشيء وهو يرفس بقدميه وتكاد عينيه أن تخرج من محجريهما كما تخرج البيضة من مؤخرة الدجاجة أو الديناصور....
تدلى "موني" المسكين من أسفل الشيء وهو معلق من رقبته بحبل الثوم، كان "موني" يلفظ أنفاسه الأخيرة بينما يراقب "ثومي" وهو يدوس على حشرات المن الصغيرة التي كان يربيها.
-6-
كانت فرحة "ثومي" بانتصاره عارمة، فقد تخلص أخيراً من "موني"، ويستطيع الآن أن يتفرغ لتجاربه الخاصة بتطوير زراعة الثوم فوق سطح الشيء، وكذلك فوق سطح تحت الشيء، حيث أصبح سطح تحت الشيء ملكه أيضاً بعد أن مات "موني" و حشراته. وبالتالي أصبح كل الشيء ملكه فوقه وتحته... رغم إني ما زلت أعتقد أن المسألة نسبية بين فوق الشيء و تحته.
جلس "ثومي" وهو يستمتع بأكل بعض حبات الثوم، ويتأمل الفراغ من حوله مفكراً بخلطة جديدة لأحد أسمدته المبتكرة الجديدة.
" ها ها هاك . شعرة من هذه وأوقية من ذاك . ولأخلقن سماداً فتاك . ينمو به الثوم شتلات متكتلات . شامتاً أنا بذلك الموني الافاك . مشنوقاً معلقاً بحبله المحاك . حكته أنا من جذر الثوم والساق"
كان ثومي مستمتعاً بما يفعله وما زال منتشياً بنصره العظيم، خلط ربعاً مما لديه من الهليوم الرباعي المستقر مع 0,01 % من الهليوم الثلاثي المستقر أيضاً، مع كل الهيدروجين الذي يخزنه وقليل من الليثيوم ولكنه لم ينتبه إلى أنه وضع من الليثيوم كمية تعادل 0,000000001 من حجم الهيدروجين الذي يستعمله وهي أقل مما اعتاد استعماله عند صناعة أسمدته الغازية المبتكرة.
أنتظر "ثومي" قليلاً، لكن شيئاً لم يحصل، فكر قليلاً وقرر أن يضيف المزيد من الهليوم إلى خليط الغازات الذي يعمل عليه.
-7-
جلب "ثومي" المزيد من الهليوم ليضعه على الخليط، ولكنه تخوف قليلاً، فكلما كان يقرب الدوارق من بعضها قبل أن يمزجها، كان سطح الشيء يهتز بشدة. فقال "ثومي" مع نفسه وهو يحاول التغلب على قلقه: " وإن إهتز الشيء إهتزازا . ومال يميناً وشمالاً تمادى . فأنا لا أبالي لهذا . ولن يهتز شعر ثؤلولي أنا العظيم الذي أصنع السمادا . ولأن أرتعد الشيء إرتعادا . فهذا بأمري وأنا على الشيء سأبقى وحدي أستند إستنادا ....... " سكتت أفكار "ثومي" لوهلة، فقد ازداد اهتزاز الشيء كثيراً، وفجاءة....
"بووووووووووووووووم كادا بوووم"........ لم يبق من "ثومي" إلا ثؤلوله يطير في الفراغ الذي أصبح فضاءاً متنامياً يتوسع بفعل الانفجار الكبير.
مع تحياتي
MHJ
ملاحظة: أعتذر للصديق "صلعم" على إختتطاف الوحي الخاص به لغرض كتابة هذه القصة، وهو في طريق عودته إليه، وإن تأخر قليلاً فهذا معناه أنه يشرب "ببسي" بناصية الشارع أو إنه يلعب مع وحي الجيران.
الهوامش:
* الثوم Garlic: إسمه العلمي Allium Sativum L. ، أستعمل الثوم من أقدم العصور لمختلف
الأغراض كالطبخ والطبابة. ارتبط الثوم في بعض الديانات بالخير والشر على حد سواء، في الديانة المسيحية مثلاً ، تنص الأسطورة على إن الشيطان حين غادر جنة عدن، كانت أثر قدمه اليسرى ينمو فوقها الثوم واليمنى ينمو فوقها البصل.
العديد من الحضارات إستخدمت الثوم للحماية من الشر أو كمكون أساسي في خلطات السحر الابيض، ومنها حضارة أوربا الوسطى، والتي كان فيها الثوم حامياً ضد الشياطين، المستذئبين ومصاصي الدماء ولذلك كان السكان يعلقونه على الشبابيك ومداخل البيوت، أو يحشرون حبة ثوم في ثقب المفتاح.
يعد المن Aphids أحد ألد أعداء نبات الثوم.
*المن Aphids : وهي حشرات صغيرة تتغذى على عصارة النباتات، يعرف منها في يومنا هذا حوالي 4000 نوع مقسمة الى عشرة عوائل حشرية، وتتراوح أحجامها ما بين 1 الى 10 مليمترات.
*الانفجار العظيم Big Bang : تعتبر نظرية الانفجار العظيم إحدى أهم نظريات تفسير النشوء، وتأتي أهميتها من خلال عدة أسباب ودلائل حسية ونظرية، أهم هذه الدلائل الحسية والتي تتماشى مع النظرية: التحليل الطيفي والضوئي القادم من المجرات المختلفة، والنظرية: النماذج الرياضية لفريدمان Friedmann models والتي أثبتت العلاقة والثبات بين الانفجار العظيم والنظرية النسبية العامة General Relativity والمبادئ الكوزمولوجية cosmological principle .
جاء القبول الشامل للنظرية بعد إكتشاف الـ CMB أو cosmic microwave background radiation ، وكان هذا الاكتشاف discovery of the CMB سبباً في قبول النظرية عالمياً وأعتبارها أفضل نموذج يفسر أصل وخلق الكون.
إنبثقت نظرية الانفجار العظيم من خلال الملاحظة المتأنية لبنية الكون، وكانت البداية في عام 1912 عندما قام Vesto Slipher بقياس ظاهرة دوبلر من مجرة حلزونية spiral nebula. بعدها بحوالي عشرة أعوام جاء العالم الروسي Alexander Friedmann ووضع معادلته الشهيرة والمعروفة بـ Friedmann equations والتي ارتبطت بمعادلات ألبرت إينشتاين Albert Einstein's equations ، وفي عام 1924 جاء Edwin Hubble ليثبت تعددية المجرات، ويتوصل الى الحسابات التي توصل اليها فريدمان بصورة منفصلة. وفي عام 1927 بدأ القس البلجيكي Georges Lemaître دراساته حول الموضوع، والتي تمخضت في عام 1931 الى اثبات ما توصل اليه الاخرون من قبله.
خلال الثلاثينيات من القرن الماضي، ظهر علماء أخرون وبدأت النظرية بتجميع أجزاءها ، ومنهم Fritz Zwicky و Fred Hoyle ، وخلال و بعد الحرب العالمية الثانية جاء George Gamow و Ralph Alpher و Robert Herman وغيرهم.
استمرت براهين الانفجار العظيم وازدادات كماً ونوعاً خلال التسعينيات بسبب التقدم الهائل في تكنولوجيا التلسكوبات telescope و أجهزة وبرامج الرصد الفضائي مثل COBE و Hubble Space Telescope و WMAP. وكان أهم هذه البراهين على الاطلاق هو اكتشاف المادة المعتمةdark matter والطاقة المعتمةdark energy.
في نهاية التسعينيات كانت ناسا NASA قد أطلقت مسباراً لفحص الـ CMB والذي يدعى COBE، وبحلول عام 2006 حصل كل من John C. Mather و George Smoot على جائزة نوبل لجهودهما في هذا المجال.
بعد عام 2000 ، استمرت التجارب وازدادت الاكتشافات والدراسات و منها مشاريع BOOMERanG و WMAP وغيرها الكثير.