Nov 13, 2008

انظر اين تقف 3

انظر أين تقف 3


-3-

تكملة للحديث السابق عن مسألة التطور وموقف العرب (المسلمين خاصة) من هذه المسألة...

حين يذكر التطور في حديث ما ، نجد ان أكثر تعليقات المسلمين تكاد لا تخلو من تهجن وتهجم على العالم تشارلز داروين، وفي اكثر هذه التعليقات تجد خلواً للمنطق والنقاش العلمي، فما مشكلة العرب المسلمين مع التطور بصورة عامة؟ ومع تشارلز داروين بصفة خاصة؟

الجواب على السؤال الاول يكمن في أن أتباع الاديان بصورة عامة يكرهون حقيقة التطور بسبب جزئية في نظرية التطور وليس ضد أغلب النظرية ، ولكنهم كرد فعل يحاربون النظرية ككل ، لأن موافقتهم على الجزء تعني موافقتهم على الكل... الجزئية التي أتحدث عنها هنا هي مسألة إنحدار الانسان من كائنات تطورت عن القردة، وهو الجزء الذي يدفع المؤمنين الى فقدانهم صوابهم، فالمؤمن يعيش في عالم خرافي ساحر ، هو فيه الاذكى ، الاسرع ، الاجمل و الاكثر قرباً للكمال... فالمؤمن هو نصف اله قام بخلقه اله كامل ، وهو أعلى مرتبة من باقي الكائنات لأن ربه أبدع خلقه وتصميمه (لو كان هذا صحيحاً لكانت كل النساء تشبه ألهة الجمال فينوس وكان جميع الرجال يشبهون يوسف، وإن كان تصميم الله ذكياً وحكيماً لما كان هناك معوقون ومشوهون بالولادة... ستقولون إختبارات إلهية و إمتحانات ربانية ... سأقول إنها غبية وبدون معنى ، فلماذا يختبر شخصاً دوناً عن شخص أخر ، أليس هو الذي يدعي العدالة ، إذن فلتكن إختباراته متوازنة مع قدراته وعادلة في فحواها كإدعائه... أيترك الكون يسير بدون وجهة ليجلس هو فيشوه خلقة هذا ويصدم سيارة ذاك ويشعل بركاناً هنا وزلزالاً هناك ... لماذا لأنه غاضب ويحب ان يختبر خلقه، فكروا قليلاً هنا وستجدون أن لا معنى لكل هذا وإن كل شيء يحصل حولنا هو نقض صريح لوجود خالق عادل حكيم أو كما يحب البعض تسميته بالصانع ، وإسمحوا لي بأن أقول بأنه صانع فاشل) ، المؤمن هو أذكى وأفضل من باقي الكائنات التي سخرها له ربه لخدمته وخدمته هو فقط (كم يشبه ذلك المباديء الفاشية والنازية والتسلسات الهرمية التي تضع شخصاً فوق قمة الهرم سواءٌ أكان هذا الشخص الهاً أو بشراً)، وبالنتيجة فإن الانسان المؤمن هو أعلى مرتبة من باقي الكائنات ولا يقبل على نفسه وكرامته بأن يكون منحدراً عن قرد ولكنه لا يمانع أن تكون حياته عبارة على عيش إتكالي على باقي الحيوانات والنباتات والتي قد يموت بدون وجودها (المسواك مثلاً).

في عددها الصادر في شهر أكتوبر الماضي، نشرت مجلة ناشيونال جيوكرافيك مقالة تتحدث عن فك الشفرة الجينية لإنسان النياندرتال Neanderthal ، أحد أقرب أجداد البشر من الانسان الحديث من الناحية الزمنية، والذين إختفت أثارهم قبل حوالي 43000 الى 28000 سنة من يومنا هذا ليتركوا خلفهم الالاف العظام مدفونة هنا وهناك، المهم ، الجديد في الموضوع هو أن فك الشفرة الجينية للنياندرتال هو خطوة جبارة من محاولات البشر لأكتشاف أصولهم عن طريق الغوص في ماضيهم التطوري تدريجياً وإيجاد ما يمكن إيجاده بمساعدة التقنيات الجديدة في مجال تحليل الشفرة الجينية والتي ليس فيها مجال للشك وإثبات علمي دامغ أخر لحقيقة التطور والبقاء للأصلح... فقد وجدت الدراسة إن الانسان الحديث وإنسان النياندرتال كان لهم أصل واحد حتى قبل 700000 سنة من يومنا هذا، وبعد ذلك كان هناك إنفصال تدريجي حتى أنفصلوا كلياً قبل 370000 سنة، فظهر الانسان الحديث والذي تطور عن الاصل المشترك القديم والذي يدعى homo heidelbergensis وبقي إنسان النياندرتال والذي تطور عن نفس الاصل ليأخذوا خطين تطوريين منفصلين وليعيشوا جنباً الى جنب الى أن انقرض النايندرتال كلياً قبل حوالي 28000 فبقيت فصيلة ما يعرف بالانسان الحديث لأنها ببساطة كانت أصلح للبقاء (تلاحظون في الشكل الثاني أدناه أنه رغم صفات النياندرتال التي تتميز بالقوة والتأقلم مع الظروف الجوية مما جعل حاجته اليومية للغذاء أعلى من الانسان الحديث بحوالي الضعف في زمن شحت فيه الموارد الغذائية وخصوصاً إن النياندرتال إعتمد على الصيد في الحصول على غذائه مما يعتقد انه ساهم في إندثاره) . في الشكليين التاليين قمت بترجمة الصور التوضيحية التي نشرت مع الموضوع والتي يتضمن الشكل الاول منها الطريق التطوري الذي سلكه إنسان النياندرتال والانسان الحديث وأصلهم المشترك والشكل الثاني هو مقارنة بين بعض صفات النياندرتال و الانسان الحديث:

وفي خبر أخر ذو علاقة نشر في عدد يناير لهذا العام من نفس المجلة، تقوم شركة IBM وبشراكة مع عدد من المؤسسات العلمية وكذلك مع مجلة الناشيونال جيوكرافيك بمشروع مدته خمسة سنوات يدعى بالـ Genographic Project يتضمن تحليل الحمض النووي لمائتي الف متطوع من مختلف أرجاء العالم بإستعمال كمبيوترات متقدمة جداً لغرض معرفة الكيفية التي إنتشرت بها السلالة البشرية حول الارض، وتحديد العصور والاصول المختلفة لمختلف الحضارات.

إن تطور أجهزة الحاسوب وإزدياد تجارب التحليل الجيني والحمض النووي قد بدأت تؤتي ثمارها في كشف إصول الانسان وإثبات حقيقة تطوره تدريجياً من إصول اخرى ، وما هي إلا مسألة وقت حتى تكتمل الاحجية وتتوفر الاجابات العلمية والاثباتات على الكثير من أسئلة البشر والتي شغلت عقولهم لألاف السنين.

أعود الان الى الشطر الثاني من التساؤل الذي طرحته في بداية الحديث ... ألا وهو لماذا داروين بالتحديد ؟ نعم ، إن داروين قد كرس جل وقته في بحوث التطور ، وربما له فضل كبير في وصول العلم التطوري الى ما هو عليه ، ولكن هل هو صاحب الفكرة؟ وإن لم يكن هو فلماذا يركز الاسلاميون غلهم وغضبهم عليه هو ويتركون غيره ممن ساهموا في تطور هذا العلم المهم مثلهم مثل داروين؟

وهنا أود المرور على اصول الفكر التطوري ونشوء هذا العلم ، فأين كانت البداية ... قد يستغرب البعض حين أقول أن بداية فكرة التطور قد سبقت ظهور المسيحية والاسلام ، وهي تعود الى ما قبل القرن السادس قبل الميلاد ، فقد ناقش الفيلسوف اليوناني اناكسيماندر Anaximander مسألة الاصول المشتركة للكائنات الحية، وكذلك الفيلسوف اليوناني إيمبيدوسيليس Empedocles والفيلسوف الروماني لوكريتيوس Lucretius ، ومن بعدهم العالم العربي الجاحظ Al-Jahiz والفيلسوف الفارسي إبن مسكويه Ibn Miskawayh و الفيلسوف الصيني Zhuangzi (على فكرة فلسفة زوانغ زي بديعة وتستحق القراءة ، وللأسف لا يوجد مراجع عربية بخصوص أعماله على النت) وكذلك في أعمال ونقاشات جماعة إخوان الصفا Brethren of Purity (وهم جماعة من الفلاسفة والعلماء العرب ظهرت في حدود القرن العاشر الميلادي و عملت في الخفاء في مدينة البصرة العراقية، فكانوا يجتمعون ثلاث مرات كل شهر ليناقشوا مختلف العلوم والافكار من الرياضيات والموسيقى حتى الفلك والعلوم الطبيعية، وكانت خلاصة عملهم ما يعرف بموسوعة رسائل إخوان الصفا والتي كان هدفها التقريب بين العلوم والدين و الفلسفة والدين في عصر ساد فيه الاعتقاد أن الدين والفلسفة لايتفقان وإن من يتمنطق فقد تزندق، وإنتهى بهم الامر في الاخذ بالشيء ونقيضه في نفس الوقت فتجد إستنتاجاً علمياً فلسفياً منطقياً وطرحاً دينياً يتناقض معه في الوقت نفسه، و أعمالهم أثرت في الكثير من الفلاسفة من بعدهم كإبن سينا).. كانت مفاهيم الفكر التطوري بمفهومه الحديث قد ذكرت في أكثر من مكان ضمن أعمال أخوان الصفا، مما دعى الكثير من الباحثين الحديثين[1] والذين قاموا بدراسة هذه الرسائل الى القول بأن إخوان الصفا كانوا يعتقدون بالتطور بمفهومه الحديث .. كما يظن بعض الباحثين[2] أن رسائل إخوان الصفا والتي تمت ترجمتها الى الانكليزية بحدود عام 1812 قد تكون أثرت في تشارلز داروين وعمله على مسألة التطور.


ومع تطور العلوم البايولوجية في القرن الثامن عشر، عاد الفكر التطوري ليظهر بقوة بين العديد من فلاسفة الطبيعة والعلماء الغربيين ومنهم الفرنسي بيير موبيغتو Pierre Maupertuis في عام 1745 والعالم الفيزيائي وفيلسوف الطبيعة إرسموس داروين Erasmus Darwin في عام 1796 (على فكرة أيرسموس داروين هو جد تشارلز داروين)، وبعدها جاءت أفكار العالم البايولوجي والاكاديمي الفرنسي الشهير لامارك Jean-Baptiste Lamarck والذي كانت لبحوثه وأفكاره في مجال تحول الاجناس transmutation of species الاثر الكبير في إحداث قفزة في الفكر التطوري. وبعد ذلك بدأ تشارلز داروين في العمل على نظريته في عام 1838 وإستمر في العمل عليها وتطويرها حتى حوالي عام 1858 وهو العام الذي أرسل إليه فيه العالم البريطاني الفذ ألفريد رسل والس Alfred Russel Wallace نظرية مشابهة، وهكذا قرر الاثنان عرض إكتشافهما بصورة منفصلة في الـ Linnean Society of London (وهي إحدى أرمق وأقدم الجمعيات العلمية التي تبحث في العلوم الطبيعية) ، وتمخض هذا عن نشر داروين لكتابه أصل الاجناس The Origin of Species والذي شرح فيه قوانين الانتخاب الطبيعي بالتفصيل والادلة العلمية مما أكسبه قبولاً واسعاً في الاوساط العلمية.


في عام 1865 جاء مندل Gregor Medel بقوانينه الشهيرة للوارثة ليضع حجر الاساس لعلم الجينات والوراثة، وكانت قوانين مندل تبتعد بالاتجاه مع بعض أجزاء نظرية داروين، إلا أنه وفي عام 1930 جاء العالم البايولوجي البريطاني رونالد فيشر Ronald Fisher والذي كان يعمل على هذه المسألة بالتحديد ليضع صيغة جديدة أغلقت الفجوة بين المندلية والدارونية ليكتمل بذلك بناء أركان العلم التطوري الحديث وتثبت ركائزه العلمية، وبحلول عام 1940 كان لتحديد الـحمض النووي أو الـ DNA من قبل العالم الامريكي أوزولد أفري Oswald Avery الدور الكبير في المساهمة بإثبات الطريقة الملموسة والتي تنتقل بها الصفات الجينية بين الكائنات مما اعطى الفكر التطوري دفعة جديدة ، ومن ثم قام الامريكي جيمس واتسون James Watson و البريطاني فرانسيس كريك Francis Crick في عام 1953 بدارسة وإكتشاف المكونات الاساسية للـ DNA ،مما مثل نقلة أخرى قدماً للتطور. وهكذا في خمسينيات القرن الماضي أصبح علم الجينات هو العنصر المركزي في العلم البايولوجي التطوري.


والأن أعود لأطرح سؤالي ثانية ، لماذا يسب المعلقون المسلمون داروين فقط؟ فهو مجرد واحد من العديد من العلماء الذين ساهموا في بناء العلم التطوري الحديث... هل ربما لأن جده أرسموس عمل على الموضوع كذلك ؟ أم ربما لأنهم لا يعرفون إن الجاحظ و إخوان الصفا مشتركون كذلك في المؤامرة؟ أو ربما الجواب يكمن في كوننا أمة تحب الشتم والتهكم لغرض الشتم فقط؟ أو الجواب الاكثر ترجيحاً وهو إننا امة ضحكت من جهلها الامم وسنبقى كذلك ما دام المدعوذون هم من يقودون هذه الامة... ألا يكفي أن لا تكون لنا ناقة أو جمل أو دور فعال في تطور العلوم والثورة التكنولوجية التي تزدهر بباقي العالم قدماً ونرجع نحن بالاسلام الى الماضي السحيق؟ فإفتح عينيك وإنظر أين تقف قبل أن تفتح فمك لتكرر أقوال المدعوذين كالببغاء.

خارج الموضوع: إقتراح: أقترح عمل فحص الذكاء أو الـ IQ test لكل من يسمي نفسه عالماً مدعوذاً في بلاد الرمال هذه لنرى إن كان يستحق لقب عالم أم لا ، وأعتقد أن لي توقعاً مسبقاً بما ستكون عليه النتائج.


[1] Nasr (1992) p71: Der Darwinisimuseim X and XI Jarhhundert (Leipzig, 1878)

[2] Eloise Hart, Pages of Medieval Mideastern History. (cf. Isma'ili, Yezidi, Sufi, The Brethren Of Purity, Ismaili Heritage Society)



Nov 8, 2008

انظر أين تقف 2

انظر أين تقف

2


-2-

تكملة لما تكلمنا به في المرة الماضية في النظر الى المكان الذي نقف به كعرب أولاً وكشعوب مبتلاة بسيطرة المدعوذين والدين على كل مجال من مجالات الحياة فيملون على الامة أرائهم الجاهلة وروؤاهم المريضة ، أود هنا التحدث عن موقف العرب (المسلمين خاصة) من مسألة التطور Evolution و ما جاء به العالم تشارلز داروين Charles Darwin ، وسبب إختياري لهذا الموضوع بالذات هو التعليقات التي يعلق بها المتدينيين في مواقع الملحدين والتي تتحدث عن نظرية التطور بطريقة تهكمية مسبقة البرمجة تمتلئ جهلاً ورجعية ، وتدل على إن أصحاب هذه التعليقات لم يقرؤا حرفاً واحداً بخصوص الموضوع وإن كل ما يقولونه هو إستجابة لدرس في الاملاء يمليه عليهم شيوخهم من المدعوذين.

أعلم إنني لم ولن أتمكن من تغطية كافة جوانب الموضوع ، إلا أنني هنا أود شرح وتوضيح بعض المفاهيم الشائعة والخاطئة والتي يروج لها المدعوذون ومن بعدهم يبدأ المعلقون المسلمون بترديدها كالببغاوات الغبية. وهنا أنا لا أدافع عن التطور بحد ذاته ، لأن هناك من الادلة والتفسيرات العلمية المثبتة ما يكفي ويزيد لإثبات أن التطور هو التفسير المنطقي الوحيد لتعدد الاجناس وتواجدها على سطح الارض ولكنني سأمر سريعاً على بعض الامور المرتبطة بمسألة التطور والتي قد لا يعرفها الاكثرية بسبب التعتيم الاعلامي الاسلامي المؤدلج في العالم العربي خاصة والاسلامي عامة.


أحدى الامور التي لفتت نظري في بعض التعليقات ، هو الحجة الجاهزة التي يجيء بها البعض والتي تقول :"إن كان التطور حقيقياً ، فلماذا لا نراه !"... سؤال قد يكون غبياً ، ولكنني سأتعامل معه بأنه سؤال محوري، والاجابة التقليدية عن هذا السؤال هي أن التطور يحتاج الى الزمن ليظهر بصورة واضحة ولمن يرغب في رؤيته عليه الرجوع االى الاحافير الجيولوجية الكثيرة والتي ترجع ظهور مختلف أجناس وعوائل الكائنات الحية الى عصور جيولوجية مختلفة... قد لا يقنع هذا الجواب البعض ممن يغلب عليهم الكسل للقراءة والبحث ، او أعمى الايمان بصرهم وبصيرتهم كما ذكرنا سابقاً، وهنا أرغب بالإضافة بعض الشيء للجواب التقليدي السابق....

هناك بعض النقاط الاساسية في حقيقة التطور والتي يتوجب فهمها لغرض فهم الاجابة عن هذا السؤال، أولها ما يدعى بجينية العائلة أو الشعب (أسف فلا يوجد كلمة دقيقة في العربية لترجمة المصطلح Population Genetics ) ، والتي تستند أساساً الى ما يعرف بـأساسيات هاردي – فاينبرغ Hardy-Weinberg principle ، دعوكم من التعقيدات الرياضية المرتبطة بهذه الاساسيات ، وسأشرح لكم ببساطة ما المقصود بالـ Population Genetics ، كلنا يعرف أن الكائنات الحية تصنف ضمن عوائل وفصائل ، ولكن ما المقصود بالشعب أو السكان أو الـ Population ؟ والاجابة هي أن الـ population هو مجموعة من الكائنات والتي تمتلك نفس الجينات وتعيش في مكان واحد (مثلاً مجموعة من العث تعيش في غابة) ... و الان نحن نعرف كذلك أن مختلف الكائنات التي تتواجد على سطح الارض في يومنا هذا قد تكاثرت على مدى الزمن لتصبح أعدادها كبيرة وبأن الطفرات الجينية تحدث دوماً في أي نوع من الكائنات ولكن بصورة فردية (مثلاً الولادات المنغولية عند البشر والذين للأسف يوصفون بأنهم معاقون، ولدي الكثير من التحفظ على أغلب التسميات المستعملة لوصفهم، فهم صرخة واضحة للطبيعة ضد كل الالهة التي تدعي خلقنا بأحسن صورة... ولكن هذه مسألة أخرى)، ولكي تنتشر هذه الطفرة الوارثية الجديدة ضمن باقي الكائنات في نفس الـ population فإنها تحتاج لأجيال من التزاوج كي نرى أعداداً أكبر من النوع الجديد والذي يمتلك صفات الطفرة الوراثية ، ولذلك فكلما كبر حجم الـ population كلما قلت فرص ظهور هذه الطفرات بطريقة يمكن ملاحظتها بسهولة. وهكذا لكي يظهر نوع جديد من الكائنات ضمن نفس العائلة وبسرعة (عامل الزمن) ، فإن العائلة يجب أن تكون صغيرة نسبياً (كما كانت عليه قبل مئات ، الالاف أو ملايين من السنين). ولأثبات ما أتحدث عنه ، سأنتقل الى مسألة ثانية لها علاقة بجواب هذا السؤال ألا وهي ما يعرف بالـ speciation (للأسف ، أيضاً لم أجد ترجمة عربية توضح المعنى ، ولكن الكلمة مشتقة من كلمة فصائل أو أنواع Species ) ، والـ speciation تعني أنحدار نوعين أو أكثر من الكائنات من نفس العائلة أو الـ population ، وهناك الكثير من البحوث والتجارب الناجحة ضمن هذا المجال والتي تثبت وبالدليل القاطع أن التطور حقيقة واقعة ويمكن أن تحدث وتظهر ، وسأذكر من هذه التجارب أشهرها والتي تم عرضها بحدود عام 1837 م من قبل تشارلز داروين... هذه التجربة تعرف بإسم Galápagos Finches ، تمت هذه التجربة في جزر تدعى بـ Galápagos Islands ، تمثلت التجربة بعزل عدة عوائل من طيور الفنجز finches (على فكرة كنت اربي هذا النوع من الطيور الصغيرة الجميلة لسنوات حين كنت صغيراً ، وأذكر أن اول زوج حصلت عليه كانت هدية من خال لي كان يعمل كحكم دولي ويسافر كثيراً وكان يحب جمع الطيور من كل بلد يزوره، كانت هذه الطيور صغيرة جميلة ، ولكن حين تفقس بيوضها فإنها لا تستطيع ان تعتني بأكثر من فرخين من فراخها الفاقسة فترمي أثنين أو ثلاثة من فراخها خارج العش، وهنا كانت لي تجربة فريدة بصفة شخصية، فقد كنت اجمع الفراخ الواقعة بعد كل موسم تفريخ وأقوم بإطعامها بنفسي لثلاث أو أربع مرات يومياً بواسطة عود خشبي صغير جداً أبلل أحد طرفيه واقشر و أكسر حبات الطعام الى قطع صغيرة ، فتلتصق بطرف العود الخشبي الصغير فاطعم به الفراخ الصغيرة... ألمهم خالي هذا جعل جزءاً من بيته حديقة مغلقة للطيور المختلفة، للأسف خالي هذا مات في مكان عمله بعد أن فجر إنتحاري غبي نفسه مستهدفاً مركزاً للشرطة مجاوراً للمكان الذي يعمل به هذا الخال قبل سنوات قليلة) ،


المهم نعود للفنجز، بعد أن عزلت مجموعات من هذه الطيور في أقفاص كبيرة على نفس الجزيرة ، ماذا حصل؟ ، بعد بضعة أجيال ظهر أكثر من دزينة من الانواع الجديدة بدون أي تدخل جيني ، فقط الطبيعة قامت بعملها (ما قاموا به في هذه التجربة هو التحكم بحجم الـ population فقط، وجعله صغيراً بحيث أن الطفرات الوارثية تظهر بوضوح بعد بضعة أجيال)... وفي الصورة أدناه ، تلاحظون أربعة من الانواع الجديدة التي إنحدرت من فصيلة الفنجز الاصلي وبإمكانكم تمييز الاختلافات بينها بوضوح إلا إن كان العمى قد أخذ ما أخذ من بصيرتكم...


Nov 6, 2008

أنظر أين تقف

انظر أين تقف


-1-

قبل بضعة أيام كنت أقرأ مقالة ممتعة عن خرافات الخلق حول العالم والتي ظهرت وانتشرت مع تطور المجتمع البشري وانتقال البشر للعيش ضمن مجموعات بشرية، تحتوي هذه المقالة على ما لا يقل عن 60 خرافة تعود كل منها للديانات ، المذاهب أو الطوائف البشرية الاكثر شهرة وبضمنها خرافات الخلق الاسلامية (والتي كنت قد تحدثت عنها في وقت سابق ).

والآن ، لو كنت من شعب الاوروك Orok الذين يعيشون على ضفاف نهر الآمور Amur River في الصين ، لكنت الآن أومن إيماناً مطلقاً بان ثلاثة شموس كانت تشرق قبل أن يظهر أي شيء أخر وبأن الارض كانت سائلة بالكامل (حتى من الداخل) ، ثم بدات بالتصلب لتظهر اليابسة بفعل حرارة الشموس الثلاثة ، وإنه لم يكن على الارض أي كائنات حية ما عدا عائلة شخص يدعى هاداو Hadau ، والذي عندما تصلبت الارض ، قام بإطلاق السهام من قوسه على شمسين من الشموس الثلاثة ، فقتل الاخت الكبرى بسهم واحد والاخت الاخرى بسهم أخر ، ليترك اختهم الثالثة والتي كانت تقف بينها على قيد الحياة (من الظاهر أن هاداو هذا ، أما كسر قوسه أو أنهى نشابه قبل أن يقتل الاخت الثالثة أو الشمس الثالثة) ، بعد ذلك قام هاداو بخلق عائلة من النسور وعائلة من الغربان (ربما غرابنا الحكيم ينحدر من هذه العائلة ، من يعلم )، قامت هذه النسور والغربان بنشر نسل الاوروك الى باقي ارجاء الارض ، وهكذا كلما رأى أحد الاوروك نسراً أو غراباً قالوا عنه انه جدنا ( لا امزح هنا ، فالاوروك يدعون النسر والغراب بجدو، فإفرح يا غراب!).

إستغربت لفكرة الشموس الثلاثة، فقد كنت أبحث عن أصل الاسطورة بتفسيرها العلمي ، فلم أقرا قبل ذلك عن ظاهرة فلكية تشتمل على ثلاثة شموس أو شيء من هذا القبيل والتي من الممكن رؤيتها بحجم كبير من سطح الارض، بحثت قليلاً وما وجدته كانت ظاهرة أرضية وليست فلكية... ففي المناطق المحيطة بنهر الآمور تحدث ظاهرة تسمى بالكلاب الشمسية أو Sun Dogs ، هذه الظاهرة تجعل الشخص الذي يقف على سطح الارض يرى ثلاثة شموس في وقت واحد ، وتحدث هذه الظاهرة بسبب إنعكاس ضوء الشمس الاصلية عن جزيئات الثلج الخفيفة المنتشرة في الجو والغيوم الثلجية في تلك المنطقة فتظهر وكأن هناك شمسان أخريتان مع الشمس الاصلية.

والآن لنترك الصين ونذهب إلى امريكا الشمالية ، حيث تعيش قبائل أميركية أصلية تدعى بهايدا Haida .

والآن لو كنت من قبائل الهايدا (أو هايدي) ، فإنني سأومن أيمانا مطلقاً بإنه في بداية الخليقة كان هناك غراب فقط ، هذا الغراب كان مدللاً وسميناً ويشعر بالملل، فذهب يبحث عن شيء يسلي به وقته ، فوجد صدفة بحرية مغلقة ، فحاول فتحها وبعد عناء تمكن من فتحها ، فماذا وجد في داخلها ؟ لقد وجد الغراب فيها بعض الكائنات ، وهكذا كان أوائل الرجال على سطح الارض ، بعد فترة شعر الغراب بالملل من هؤلاء الرجال ن فذهب يبحث عن تسلية جديدة ، فوجد هذه المرة حيواناً مائياً يدعى جيتون Chiton فنظر تحته فماذا بإعتقادكم وجد؟ ... صحيح ... لقد وجد النساء قابعات تحت الجيتون ، فحررهم وأخذهم الى حيث كان الرجال ، ولم يعد الغراب يشعر بالملل بعد ذلك ، لأنه كان يتسلى بمراقبة كلا الجنسين يتفاعلان ويتعارفان..

وهكذا إتخذت شعوب الهايدا الغراب كخالق وجامع لكلا الجنسين ، وفي أكثر قصصهم تجد الغراب يوصف بإنه خالق الجنس البشري.. هناك حضارتان اخريتان تؤمن كذلك بإن من خلقهم هو غراب ، وهما النفاجو Navajo والتلينجت Tlingit (إذن ربما كان الاوروك في الصين على حق بعد كل شيء ! ، فهذه حضارات اخرى تبعد عنهم الالاف الاميال وتدعي أن خالقهم ... غراب، أفليس هذا غريباً أم ماذا؟ بدات اصدق هؤلاء الاوروك)...


ليس ببعيد عن أماكن تواجد الهايدا ، كانت تعيش أيضاً قبائل الشيروكي Cherokee ، والذين يؤمنون بأنه في البدء كان هناك ماء فقط ، وكل الكائنات الاخرى كانت تعيش في السماء ، وكان الفضول ينتابهم دوماً عما يوجد تحت سطح الماء ... وفي يوم من الايام تطوعت خنفسانة ذكر (ربما من الافضل أن أقول خنفوس ربما؟ بما أنه ذكر) يدعى دايأوني سي Dayuni’si (أو خنفسانة الماء Water Beetle ) للذهاب والنظر الى ما يوجد تحت سطح الماء ... فقام الخنفوس بإستكشاف المكان ولكنه لم يجد أي شيء ما عدا الطين والطمى والذي قام بجلب بعضه الى سطح الماء ، وبعدها قام الخنفوس بالغوص ثانية لجلب المزيد من الطين وبدأ يجمعه على سطح الماء حتى كبرت كميته حتى اصبح حجمها بحجم اليابسة التي نعرفها الان ، وقام حيوان أخر من الذين يعيشون في السماء بربط هذه اليابسة الى السماء بأربعة خيوط كي لا تغطس في الماء ، بعد ذلك قام الخنفوس بإرسال صقر لكي يحضر اليابسة الجديدة إستعداداً للحيوانات الباقية والتي ستنزل اليها بعد ذلك ، وبينما كان الصقر يطير نازلاً الى اليابسة بدأ يشعر بالتعب وبدات جناحاه ترتطم باليابسة وفي كل مرة يرتطم الجناحان في الارض كان يتكون هناك جبل أو وادي.

نزلت الحيوانات الى اليابسة بعد ذلك ، ولكن الدنيا كانت معتمة جداً ، فقرورا صنع الشمس ، فصنعوها وقاموا بوضعها في المسار الذي هي فيه الان وهي هناك منذ ذلك الوقت.


إن كلاً من هذه الحضارات وغيرها يؤمنون إيماناً مطلقاً بأن هذا هو ما حصل فعلاً رغم تناقضه مع العلم ، التاريخ ومع ما يعتقده غيرهم من اتباع الحضارات الاخرى ، وجميع أساطير الخلق هذه وبدون إستثناء تشترك مع بعضها بعدم المنطقية وبعدها الكامل عن التفسيرات العلمية المثبتة بعلوم الفيزياء والجيولوجيا والاركيولوجي و البايولوجي للكيفية التي وجدت بها الارض والكائنات.

والان لو جلبنا واحد من الشيروكي وقلنا له إن الارض لم يخلقها خنفوس بل خلقها غراب كما يظن الاوروك فسيغضب بالـتأكيد وربما يهيم على وجهه غاضباً مثل صاحبنا هذا أو هذا أو هذا أو ربما مثل هؤلاء . سؤالي للمؤمنين فقط :ما الذي يجعل ما تعتقدونه يختلف عن قصص الخلق التي ذكرتها سابقاً ؟ ستقولون ربكم أخبركم بها ! كذلك هم ربهم أخبرهم بها ، سواءاً كان غراباً أو خنفساً أو وحياً غير مرئياً إسمه اللهو الخفي؟ هم يعتقدون وانتم تعتقدون وكلكم تعتقدون إنكم على صواب لأنكم تعتقدون ما تعتقدون... فكيف تعرفون كلكم مع غيركم من المعتقدين المخالفين بإن ما تعتقدونه هو الصواب؟ وكيف تكونون متأكدين بصورة قاطعة بإن باقي المعتقدين والتابعين لمعتقدات غير معتقداتكم هم على خطأ (وخصوصاً إن بعض المعتقدين الاخرين يقارب عددهم عددكم مثل الهندوس والمسيحيين؟ فهل الكثرة تغلب المنطق؟ وإن كان جوابكم كلا بل المنطق ... فأي منطق منطقكم، وهو مليء بمليون تناقض؟ ولماذا تفرحون سواءاً كنتم مسلمين أو مسيحيين بإزياد عدد المعتقدين بكم من فقراء البلدان النامية وكأنكم في حرب عددية ضد العلم و المنطق؟) ... على فكرة لست بحاجة الى الاجابة ... لأن هذه الاسئلة هي لكم لتتفكروا أو تفكروا بها...فانظروا ثانية أين تقفون ... فإن الارضية التي تستندون عليها تتكون من نفس المادة الهلامية الهشة التي تتكون منها باقي المعتقدات البالية والتي تتسبب بجعل عقول متبعيها هلامية كذلك وتسحب أقدامهم إلى حيث لا يعلمون من ظلمات الجهالة والتي لن تفيدكم بصيرتكم الاعتقادية فيه بشيء ، فإلايمان الاعمى بالخرافة يعمي البصر والبصيرة على حد سواء ...