Jun 16, 2010

سجين المكعب

سجين المكعب

1

"لا أعلم كم من الوقت مضى علي وأنا هنا.... فلم يعد للوقت أهمية أو معنى بالنسبة لي.... فقدت الامل بالخروج منذ زمن طويل و على الاغلب لن أستطيع الخروج من سجني هذا.... مللت النظر الى هذه الاعمدة الثلاثة التي تسند سقف زنزانتي التي وجدت نفسي فيها منذ زمن بعيد .... مللت تحسس خطوط الزخارف على هذه الاعمدة.... ومللت الاختباء فوق الفوانيس القديمة المتدلية من سقف الزنزانة كلما جاء موعد تنظيف السجن .... كم أتمنى الخروج من هنا ... الهرب والركض بعيداً .... بعيداً الى مكان لا تستطيع هذه الكائنات التي سجنتني أن تصل الي فيه أو أن تلحق بي.... فهم السبب الذي يمنعني من الهرب.... يحيطون بزنزانتي طوال الوقت ، يدورون حولها .... يحيطونها بطريقة تمنع أياً كان من الخروج والهرب من هذا السجن.... انا ارتعب لمجرد التفكير بمحاولة الهرب من هنا ... .... لا أعلم لماذا وضعوا حولي كل هذا العدد من الحراس ... بالتأكيد سيمزقونني ارباً إن خرجت من هنا .... ما الذي فعلته كي اسجن هنا ؟ ولكم من الوقت سأبقى سجيناً هنا ويحيط بسجني هذا العدد الكبير من السجانيين؟".....



2

" إن همهماتهم وأصواتهم تؤرقني.... تخيفني.... ألا يكفي أنهم سجونني هنا .... كل ما أذكره هو إنني سقطت من السماء بعد أن ارتطمت مركبتي بنيزك صخري أسود.... فسقطت هنا وتساقطت معي أجزاء النيزك المحترقة لتضرب المكان الذي سقطت فيه وتحرق كل ما حولها .... تطاير الغبار ... وعلا الصراخ .... أظنه كان مشهداً مرعباً لسكان المكان الذي سقطت فيه .... بعد أن ارتطمت بالارض بلحظات فقدت الوعي بفعل الحرارة العالية التي تسببت بها أجزاء النيزك المتساقطة والتي تحولت بفعل الحرارة الى الكوارتز المصدوم .... عندما إستيقظت وجدت هذه الزنزانة حولي .....لا أعلم كيف ؟ .... لا أعلم كم بقيت فاقداً للوعي ؟ ... والاسوأ إنني لا أعلم أين كنت متجهاً ؟ هذا شيء لا أذكره ...... ماذا كنت سأفعل هناك ؟ أو حتى ماذا أفعل في هذه المجموعة الشمسية الضئيلة الحجم وعديمة القيمة ؟ ..... هذا أيضاً شيء لا أذكره ..... فقد مضى زمن طويل على ذلك.... حتى إنني لم أعد أذكر من أنا ؟ من أكون ؟ أو ماذا أكون ؟"

نظر الكائن الغريب الى إحدى زوايا الزنزانة المربعة بنظرة حزينة ... " لكم تمنيت أن تكون هناك نافذة في هذه الزنزانة .... لربما نظرت من خلالها بعيداً الى الافق عسى ولعل أعلم من أين جئت وأين كنت ذاهباً؟ ... كل ما أستطيع أن اراه من هذا السجن هو السجانيين الذين يحيطون بسجني هذا من خلال فتحة مفتاح باب الزنزانة الكبير...."


3

"أحياناً حين أنظر من فتحة مفتاح الباب وأرى إن الظلام قد حل وخفت الحركة حول الزنزانة العالية السقف... أصعد السلم في داخلها حتى أصل الى سطح الزنزانة.... ليس هناك من شيء ولكنني أصعد وأجلس بجانب جدار سطح الزنزانة لساعة أو ساعتين أنظر الى السماء في محاولة لمعرفة من أين جئت ؟ ، أو أين كنت ذاهباً؟ ، لكن تفكيري يتشتت وأنا انظر حولي خوفاً من أن يلاحظ السجانيين وجودي أو أنني ارتقيت سطح الزنزانة... في مرة من المرات تجراءت ونظرت من على حافة جدار السطح... وفيما كنت انظر الى السجانيين حول الزنزانة سقطت إحدى أحجار حافة السطح فوق أحد السجانين فسقط ارضاً.... فزعت جداً .... وتسمرت في مكاني وأنا أنظر الى ما حصل ... المشكلة كانت في أن مجموعة السجانيين الاقرب الى زنزانتي كانت في حركة مستمرة كما هي عادتهم ... أعتقد أنهم يقومون بهذا حتى لا يشعروا بالملل أو النعاس.... كما أظن أنهم يقومون بهذا حتى يشعرونني بالرعب والخوف من مجرد التفكير بالهرب... المهم .... سقط أحد السجانيين على الارض فيما كان يقوم بدوريته مع باقي السجانيين حول سجني المكعب ... وما حصل بعدها لن أنساه ما دمت حياً .... فقد داس باقي السجانيين عليه حتى خرج دماغه من مقلتي عينيه بعد أن تحرجت عينيه على الارض من فعل دوس الاقدام.... أظن أنهم علموا أنني فوق السطح اراقبهم ... وإنهم فعلوا هذا ليروني ما هم قادرون على فعله إن حاولت الخروج .... "

إرتجف الكائن الغريب وهو يجلس في إحدى زوايا الزنزانة التي يسجن فيها ... ضغط بظهره الى الجدار الاملس البارد... وإعترت بدنه موجة من البرد .... لكنه لم يعلم إن كان السبب الجدار البارد أو تفكيره فيما سيفعله السجانون به إن حاول الهرب من الزنزانة.... نظر الى السقف العالي ..... ثم الى الارض ..... ووضع رأسه بين ركبتيه وبدأ بالبكاء كعادته في الليالي التي لا يستطيع فيها أن يتسلق السلم الكريستالي في زنزانته ليصعد الى السطح وينظر الى السماء....


4

" لكم أكره هذا الحجر البارد الذي يحيط بي ... أينما أضع ظهري أجده خلفي... كل ما اتمناه هو أن لا أموت في هذه الزنزانة على الاقل ... فحياتي كانت غير عادلة حتى الآن ... أتمنى على الاقل أن يكون موتي عادلاً .... لذلك لا أريد أن أموت وأنا سجين هذه الزنزانة واحجارها الباردة .... والتي ما زلت لا أعلم لماذا يهتم سجانيي بتنظيفها في مواعيد محددة ؟ يلمعونها و يصقولها .... يطلون سطوحها بانواع مختلفة من المواد غريبة الرائحة ... وكأنهم لا يعلمون أن مخلفات الكائنات الطائرة الصغيرة تمليء سطحها في اليوم التالي مباشرة .... فهذا السطح هو السطح الوحيد في المنطقة المحيطة بي والتي تستطيع الكائنات الطائرة اللجوء اليه حين تشعر بالتعب من الطيران ولا تستطيع النزول الى المنطقة المحيطة بالسجن لإنها مليئة بالسجانيين والذين يخيفون هذه الكائنات بشدة .... لكم أحببت هذه الكائنات الطائرة الصغيرة ... عيبها الوحيد أنها لا تستطيع الطيران لمسافات طويلة وتحتاج أن تنزل فوق أي شيء ليس عليه أعداء قد تؤذيها أو تصيبها بالضرر ... أحياناً تبحث عن قوت يسد رمقها ... أو لتفرغ ما في معدتها الصغيرة من بول مختلط بالغائط .... أو لمجرد أن تسترد أنفاسها المتعبة.... "

رفع الكائن الغريب رأسه من بين ركبتيه .... وعلت عينيه نظرة مليئة بالحزن ..... تحرك من زاوية السجن التي كان يجلس فيها وزحف على الارض بضعة من الاذرع ليصل الى إحدى زاويا الزنزانة الاخرى القريبة اليه و يجلس معطياً ظهره لها.... إعترت الكائن الغريب رجفة إهتز لها جسده بعد أن لامس ظهره الحجر الاملس البارد خلفه....


5

" لا أتذكر متى كان ذلك .... لكن على الاغلب مضى ومن طويل منذ ذلك الحين .... لا أذكر متى .... كما إن ذاكرتي مشوشة كثيراً ... أذكر أن احد هذه الكائنات الطائرة الصغيرة إستطاع التسلل الى زنزانتي في محاولة منه لإيجاد ملجأ له يتقي به حرارة الشمس الحارقة.... كنت مستمتعاً بالنظر اليه يقفز من عمود الى اخر داخل الزنزانة و أحياناً يقف على أحد الفوانيس القديمة المتدلية من سقف الزنزانة .... وأذكر في مرة من المرات وفيما كنت جالساً في احدى الزوايا خائفاً من همهمات السجانيين الذين يدورون حول الزنزانة في الخارج... نزل الكائن الطائر الصغير من على الفانوس ليقف على كتفي وينظر الي بعينيه الصغيرتين بدون خوف .... بقي هكذا لمدة و كنت أنا ايضاً اتأمل الكائن الصغير و كيف يحرك رأسه الصغير ومنقاره الدقيق في سرعة وانسيابية .... لكم تمنيت أن تكون لي قابلية هذه الكائنات الصغيرة على الطيران .... لكنت بالتأكيد صعدت الى سطح الزنزانة وهربت بعيداً جداً .... لكنت سأطير وأطير وأطير ...... "

" أحياناً أظن أن ذاكرتي تعمل بطريقة انتقائية غريبة .... فعقلي يحاول حمايتي من الذكريات المؤلمة والحزينة ويتعمد عزلها عني في حالتي الواعية .... إلا انني حين اغلق عينيي وأدخل في حالة اللاوعي ... تعود الي هذه الذكريات بصورة غريبة .... فأستيقظ وأعود الى حالة الوعي.... فهي افضل وأقل ايلاماً .... عندما حل الظلام في الخارج المرة الماضية ... أغلقت عينيي لمدة ودخلت في حالة اللاوعي .... وعندها تذكرت ما حصل للكائن الطائر الصغير .... وإستيقظت فزعاً..."


6

" لقد كان ذلك بعد بضعة ليالي من إلتجاء الطائر الصغير الى زنزانتي ... فقد جاء عمال تنظيف الزنزانة لتنظيفها كما هي عادتهم كل عام.... قمت أنا باللجوء والاختباء كعادتي فوق الفوانيس القديمة بطريقة لا يستطيعون فيها رؤيتي .... وتوقعت أن يقوم الكائن الطائر الغريب بنفس الشيء ..... إلا إنه لم يفعل..... لن أنسى مرة اخرى ما حصل بعد ذلك .... فقد لاحظ أحد المنظفين وجود الطائر الصغير وبدأ بمطاردته وبعدها بلحظات إنضم اليه باقي عمال التنظيف .... إرتطم بعضهم ببعض في محاولة لإمساك الطائر الصغير .... وإستطاع الطائر أن يناورهم لبعض الوقت .... ولكنه للأسف لم يستطع أن يقوم بذلك لفترة أطول ... ففيما كان أحد العمال يلاحقه حُصر الطائر الصغير بين الجدار والعامل والذي كان يركض بسرعة فإرتطم بالجدار بسرعة عالية مهشماً الطائر على الجدار ... ما زلت أذكر صرخة الطائر الصغير الاخيرة.... وصوت تهشمه .... سقط العامل على الارض بعد إرتطامه بالجدار .... وعلى الجدار.... كانت أشلاء الطائر ودمائه تغطي الحجر الاملس البارد والدماء تنزلق على سطح الجدار الفاتح اللون الى أرضية الزنزانة..... خفت كثيراً .... وحزنت أكثر ..... وشعرت بالغضب .... فيما عدا الحزن والخوف .... أنا لم أعتد على الغضب ..... ربما كان الغضب هو ما يمنع ذكرياتي السيئة من العودة إليي عندما أكون في حالة الوعي ؟ .... ربما ! .... قد يكون هذا صحيحاً ، ففي كل مرة كنت أشعر بالخوف والغضب في نفس الوقت كانت ذاكرتي تمنعني من تذكر الشيء الذي أخافني واغضبني في نفس الوقت .... كم هذا غريب !.... "




7

" في يوم من تلك الايام المرعبة ... أتذكر أن السجانيين بثيابهم الموحدة البيضاء كانوا يدورون حول الزنزانة كعادتهم وهم يهمهمون .... قفزت من أحد الفوانيس القديمة الى أحد الاعمدة في وسط الزنزانة في محاولة لإبتعد عن أطراف السجن فيقل صوت همهمات السجانيين بعض الشيء .... إلا أن ذلك لم يجدي نفعاً.... فقد إستمر صوت الهمهمات بالتصاعد حتى أوشك رأسي على الانفجار .... لماذا يدورون حولي ؟ ، ما الذي فعلته لهم ليقوموا بتعذيبي بأصواتهم المزعجة ؟ " .... ضغط الكائن الغريب برأسه بقوة على العمود الذي قفز إليه بينما إزدادت أصوات الهمهمات الفارغة إرتفاعاً..... نظر الكائن الغريب حوله بحزن .... وربما ببعض الغضب .... نظر الى أطرافه التي تتعلق بقوة بالعمود الذي يسند سقف المكعب .... بينما إزداد إرتفاع أصوات هؤلاء الذي يدورون بغير هدف حول المكعب ..... كما كانوا يفعلون في الماضي .....

فجاءة....

بدأت أطراف الكائن الغريب والتي يتعلق بواسطتها بالعمود تتراخى ..... أغمض الكائن الغريب عينيه .... فلم يعد بإمكانه الاحتمال .... هو غاضب .... حزين ...... خائف ...... لم يعد بإستطاعته التمسك بالعمود لأكثر من هذا .... بدأ الكائن الغريب بالسقوط سقوطاً حراً الى أرضية السجن المكعب ..... حتى إرتطم بها ..... شعر بملمس الارض الباردة تحته ، وإعترت جسده رجفة خفيفة .... ودخل في غيبوبة اخرى قد تطول أو تقصر.



تحياتي للجميع
MHJ